الإرهاب والإنتلجنسيا العربية المحتضرة
الإرهاب والإنتلجنسيا العربية المحتضرة
أن يستنزف الربيع العربي الإنتلجنسيا العربية في مختلف المجالات والسياقات، وأن تُستفرغ الطاقات المعرفيّة إما اغتيالا رمزيا أو تغييبا ماديّا على وقع الاصطفافات السياسيّة الثنائيّة الضيقة التي أفرزتها الحالة الثوريّة في الأمّة ومن ثمّة الاستنجاد بها حاليا لتشكيل خزان فكري وجبهة إبستيمية لمواجهة التكفير والإرهاب، لهي مفارقة كبيرة تعبّر عن حال التخبط والاهتزاز الذي يعيشه المشهد السياسي العربي اليوم.
الإرهاب والإنتلجنسيا العربية المحتضرة |
كانت المسارح ومعها قاعات السينما وفضاءات الفنّ التشكيلي ومقرّات الصحافة المطبوعة والإعلام السمعي البصري وباحات الجامعات، ساحات لغزوات التيار السلفي الذي استباح العقل الجمالي واغتصب العقل السياسي واقتلع العقل النقدي الثقافي ودجّج المجال العام الاتصالي بـ”لغة الإرهاب” وبـ”إرهاب اللغة” إلى درجة الارتداد والنكوص إلى زمن الفتنة الكبرى وحقبة حروب الردّة.
وفي الوقت الذي كانت فيه تونس تعيش على وقع ترهيب الثقافة على يد حلفاء السلفيين وثقافة الإرهاب من طرف التكفيريين، كانت دول أخرى تعرف اغتيال العقول على أنقاض تصفية الحلول السياسيّة ونحر التسويات، ومع كلّ إعلاء لصوت السلاح كانت أصوات الإصلاح السياسي والثقافي تخفت وتخبو، بل إنّ البعض من المثقفين العرب تحوّلوا إلى قادة حرب عشواء سواء من جهة النظام أو المعارضة، ومع الوصول إلى حالة الاستعصاء في كافة الجبهات في سوريا أو اليمن أو ليبيا بات العقل الثوري رديفا للفشل السياسي والأزمة العسكريّة.
وعوضا عن المهمة الوظيفية الاستراتيجية التي تؤديها الإنتلجنسيا الحقيقية في البناء والوحدة وجسر الهوة الاجتماعية وحتّى في التثوير الفكري قصد الإبداع والخلق واستباق الأحداث وفق القراءات المستقبلية، باتت الإنتلجنسيا العربية صوتا من أصوات سوق عكاظ تُشترى بالمال وتسوّق بالإعلام وتوّجه بالريموت كنترول من العواصم الكبرى وتعدّل مواقفها وفق بيانات وزارات الخارجيّة.
وقّع الربيع العربي على موت الإنتلجنسيا العربية التي استنزفت رأسمالها الاعتباري والرمزي خلال فترات مقارعة الاستبداد، أو إبّان مواجهة الاستعمار الإسرائيلي والأميركي للترويج للمشاريع الإقليمية في المنطقة، وصل حدّ الاستقتال بأحدهم إلى التلويح بمعاقبة ومقاضاة كلّ من يتطاول إعلاميا وسياسيا على دولة خليجية تمثّل عمقه الإستراتيجي وشرعيّة وجوده على كرسيّ الرئاسة في بلده.
استحالت الإنتلجنسيا العربية في بعض الأقطار إلى أرهاط من مرتزقة السياسة لا تتهاون قيد أنملة في أنسنة التدخل الأجنبي وفي استباحة السيادات العربية وفي الترويج للأقليات الطائفية المصطنعة وإحياء هويات ما قبل الدولة الوطنية.
يستنجد الرئيس الباجي قائد السبسي بمجموعة من المثقفين الجامعيين التونسيين الذين لا يشكّك أحد في قيمتهم الفكرية، بقدر ما يشكك المتابع في جدوى الخطوة في وقت ساهم الكل ومن مواقع مختلفة في تهميش الشأن الثقافي والجمالي في البلاد ولم يعمل الكلّ في سبيل مأسسة منظومة إصلاح العقل المعرفي التونسي خاصة والعربي عامّة.
أن تكون الإنتلجنسيا التونسية محتضرة ومهمشة في وقت يعاني فيه العالم من “مأسسة الإرهاب” على شكل دول إقليمية أو جماعات تكفيرية أو تهريبا وترهيبا، فإنّ فعل المواجهة يكون مختلا باختلال موازين القوى.
يملك أنصاف الإرهابيين في العالم العربي مواقع سيادية وآبارا نفطية في ليبيا وسوريا والعراق وقنوات تلفزيونية تبثّ كلماتهم على المباشر، فيما يملك أباطرة الإرهاب جغرافيا واسعة في ليبيا والشرق الأوسط وتجارة كاملة تبدأ من الآثار والنفط، ولا تنتهي عند بيع السلاح ومقايضة الرهائن، فيما يجاهد المثقف العربي للعيش بكفاف وبالحدّ الأدنى من الكرامة دون توسّل أو تسوّل.
وفي وقت يملأ المثقف فيه قارئيه الذي يعدّون على أصابع اليد بالأمل البعيد، يقابل الإرهابي جمهوره الحقيقي والافتراضي بالوهم القريب.
كاتب ومحلل سياسي تونسي