بين دوابشة وكساسبة... الصهيونية والداعشية
الصهيونية و الداعشية
دون سقوط في الانفعالية النفسية والإعلامية التي يتعاطى بها الوجدان العربي مع آلة الحرب الصهيونية الحارقة للجسد العربي عامة والفلسطيني خاصة منذ 1948، والتي تؤدي في المحصلة إلى وضع الآلام في رفوف أرشيف القضية قبل سقوطها في هوّة النسيان والتجاوز، فإنّ المقاربة الأنجع للحيلولة دون تكرار الفواجع كامنة في معرفة أصولها وحيثياتها وسياقاتها وضبط ترياق تفنيدها وتقويضها بمنأى عن التعامل الآني الساخن الذي يبرد ببرود الحدث الصحفيّ.
إضرام النار في جسد الشهيد الطفل الفلسطيني علي دوابشة من طرف المستوطنين الإرهابيين الصهاينة في الضفة الغربية المحتلة، وإشعال جسد الطيار الأردني معاذ الكساسبة بكلّ تشف وغلّ من قبل إرهابيي “داعش” يحمل أكثر من تقاطع فكري وسياسي واستراتيجي لابدّ من الوقوف عند نقاطها والتمعن في دلالاتها.
فالكيان الصهيوني لا يختلف في شيء عن الكيان الداعشي في احتقار الذواتات الإنسانية الأخرى النابع، أي الاحتقار، من تقديس كامل وكليّ للذات الفرديّة، وهي مقدمّة لمقولة “نهاية التاريخ” التي يتشارك داعش والكيان الصهيوني في إثباتها وإقرارها من حيث التوهّم بأنّ حركيّة “الزمان” انتهت عند “درّة التاج” المتمثلة وفق زعمهم في “الخلافة السادسة” بالعراق وسوريا، و”إسرائيل الثانية” في فلسطين المحتلة.
تضيع الكثير من القراءات السياسية والإعلامية في السعي إلى البحث عن صورة “الآخر” في الخطاب الاتصالي لـ”داعش” أو للكيان الصهيوني، إذ أنّ “الآخر” منعدم الوجود ومعدوم الكينونة في كلا المقاربتين وإن وجد فهو “وجود” ظرفي طارئ على التاريخ والجغرافيا ولابدّ من القضاء عليه بأسرع وقت، ولا يعرّف هذا “الآخر” إلا بمقتضى علاقته مع “الأنا” الداعشية أو الصهيونية، أليس من الغريب أن يسمى الشعب الفلسطيني الأصيل بـ”عرب 48”، وأن يطلق على أبناء سوريا الأثيلة “ألقاب” النصيرييّن والنصارى والرافضة وغيرها من الألفاظ المقيتة.
فتسويغ الأرض المغتصبة سواء أكانت لخلافة سادسة موهومة في الخطاب الداعشي، أو لتوطين أرض الميعاد في التصوّر الصهيوني يمر حتما عبر “إبادة” أهلها وحرق أطفالها واجتثاث الأصل من الوجود، ذلك أنّ داعش، كما إسرائيل، يرفضان تفسير الحاضر بالتاريخ أو التاريخ بـ”الحاضر”، ويفرضان فقط تفسير الحاضر بمقولات “ما بعد التاريخ” أو عبارات ما قبل التاريخ، وفي الحالتين فهما يدعيان أنّهما الماضي والحاضر والمستقبل معا وذاك هو جوهر مقاربة “نهاية التاريخ”.
الرضيع الشهيد علي الدوابشة، كما الطيار الفقيد معاذ الكساسبة كانا شاهدين على سقوط المنطقة العربية برمتها في “الزمن الصهيو-داعشي” وهوانها على الردّ ومقاومة كافة محاولات إذلالها وإضعافها، فلولا قبول العرب بالكيان الصهيوني والتطبيع الرسمي معه ما ظهرت “داعش”، ولولا قبول العرب بالتوسع الاستيطاني لإسرائيل على حساب الجغرافيا العربية ما تمكنت داعش من السيطرة على نصف العراق وسوريا، ولولا قلة الحيلة العربية الرسمية حيال إضرام النار في جسد الكساسبة ما تجرأ الصهاينة على إشعال النار في الجسد الفلسطيني الرضيع.
صحيح أنّ المجازر الصهيونية سابقة لداعش وهي لا تنتظر لتأشيرة داعشية للضرب في فلسطين المحتلة، ولكن هوان النظام الرسمي العربي حيال خطر الإرهاب وإزاء جرائمه ضدّ أبناء العروبة والإسلام يزيد من الجرأة الصهيونية على الدم العربي.
مشهدية النيران الملتهمة لجسد “الكساسبة” و”الدوابشة”، تشير إلى ذات العقل الإستراتيجي الذي يقف وراء داعش وإسرائيل، القضية ليست فقط ترهيبا للأعداء عبر التصعيد في التعذيب والتصفية، وإنما هي أيضا عقلية واحدة في سفك الدم وشيطنة الآخر حتى وإن كان هذا “الآخر” مرفوعا عنه القلم، ولم يهنأ بعد بلباس القماط ولا بدفء صدر والديه، وأنى لمن لا يعرف سوى القتل أن يستكنه الحياة وقبسها، وأنى لمن يخيط يوميا لباس “الكفن” للآخرين أن يدرك لحظة روعة “الحياة” و”الممات” بعد الاستشهاد بنيران الكره والحقد والأنانية والعنصريّة.
كاتب ومحلل سياسي تونسي