في الثقافة الداعشية وأوهام الأرقام

الثقافة الداعشية

يريد الغرب ممثلا في الولايات المتحدة بشكل خاصّ اختزال الظاهرة الإرهابية في الزاوية الحسابيّة الضيّقة، حيث تتلازم خطورة الجماعات الإرهابية بمقاييس العدد ومحددات العدّة بطريقة تبتسر العقل العربي في مقاربة الكمّ دون إحاطة معرفية وثقافية واجتماعية واقتصاديّة بالموجة التكفيرية العاصفة بالمنطقة العربية برمتها.
في "الثقافة الداعشية" وأوهام الأرقام
في الثقافة الداعشية وأوهام الأرقام

لم يكن من “المستغرب الإبتسمولوجي” اكتفاء تقارير مراكز البحث الأوروبية والأميركية المختصة في الظاهرة الإرهابية بالإطار الكمي ،حيث أصبح الإرهاب “معرّفا” بجنسيات وأعداد المقاتلين المتدفقين على سوريا والعراق. إشكاليّة المنحى الكمّي للإرهاب متمثلة في 4 نقاط مهمّة هي:
1 - طرح معادلة عسكرية مضللة لثنائيّة الانتصار والهزيمة، بحيث تصبح هزيمة “داعش” تتمثل في نقصان عدد الإرهابيين، وانتصارها في استمرار تدفق المقاتلين الأجانب على تنظيم الدولة الإسلامية.
2 - منطق “تحالفي” مع الإرهاب لا يدقّ ناقوس الخطر من الجماعات التكفيرية إلا في حالة ما أصبحت “ظاهرة” تسليحية ذات تداعيات أمنية وعسكرية خطيرة على مصالح واشنطن في المنطقة أو على أمنها الداخلي، ما عدا ذلك فالإرهاب كحقيقة و“فعل” و“أثر” لا يستدعي الانتباه ولا يسترعي الاهتمام.
3 - قصوره عن فهم “الظاهرة” الإرهابية كنتيجة لأسباب عديدة وكسبب لنتائج كارثية محليا وإقليميا ودوليا.
4 - القصور في الفهم سيتولّد عنه قصور في إدارة الأزمة حيال الجماعات التكفيريّة.
لن نقصي فرضيّة التحالف “الذرائعيّ” بين واشنطن وداعش إلى حين عودة الجماعة التكفيرية لـ“رشدها” الأميركي والرضوخ لـ“لاءات” البيت الأبيض حيال الإرهاب وهي؛ “لا لدولة إرهابية تعادي الدولة الكردية”. لا لـ“دولة تكفيرية” تسيطر على النفط والغاز العراقيين. لا لـ“إرهاب” يعادي الميليشيات السورية أكثر من عدائه للدولة السورية. بيد أنّ التركيز الأميركي على “المقاربة الكميّة” يشير إلى “تجاهل” أميركي للظاهرة يسمح لها بالتغلغل داخل البلدان العربيّة.

بناء على هذه الزاوية نفهم تصريح قائد القيادة العسكرية الأميركية في أفريقيا ديفيد رودريغيز الذي اعتبر أنّ واشنطن لا تفكر حاليا في التدخل في ليبيا، بعد أن كشف عن وجود معسكرات تدريب لـ“داعش” في الشرق تضم حوالي 200 مقاتل. وهو تصريح يكشف “تعويم” واشنطن للظاهرة الإرهابية بالأرقام قصد تحويل النظر عن الخطر الداعشي في المنطقة المغاربية إلى حين تثبيت أقدامه في الأرض الليبية والمغاربية، فيكون التدخل الأميركي العسكري راميا لتحقيق 3 أهداف استراتيجية وهي: تقليم أظافر القوة الإرهابية، وتأبيد نموذج الدولة الفاشلة في ليبيا، وإرساء قواعد عسكرية دائمة في المنطقة المغاربية.
الخطير في المقاربة الكميّة للإرهاب أنّها تأخذ صاحب القرار العربي إلى التمثّل الأميركي لمفهوم الخطورة، بشكل يجعله لا يضع الاستحقاقات الفكرية والاجتماعية والاقتصادية والعسكرية والأخلاقية في سياق الحرب ضد الإرهاب.
فعوض أن يتساءل صاحب القرار العربي عن المفاعيل الداخلية والخارجية التي دفعت بعدد من الشباب المسلم إلى ولوج المحرقة السورية والعراقية، وعوض تشكيل ورشات عمل لفهم الظاهرة وإرساء منظومات متكاملة للتعامل مع الإرهاب ضمن رؤية “السبب والنتيجة”، يبقى العقل السياسي العربي حبيس أرقام تكشف عنها مؤسسات بحثية ومراكز دراسات غربية بين الحين والآخر.
لسنا بصدد التقليل من شأن عشرات الآلاف من الشباب التكفيريين المتربصين بالأمة، ولا بصدد التهوين من قيمة الدراسات الكميّة، ولكنّ التركيز على المقاربة الإحصائيّة دون استناد إلى سياقات التأصيل المنهجي والاستشراف الموضوعي من شأنه أن “يطبّع” الإنسان والمكان والزمان مع الإرهاب.
وكما أنّ من حق باريس أو برلين ولندن، إعلان الطوارئ حيال وجود مقاتل تكفيري واحد في داعش، فمن حقّ الدول العربية ومن واجبها الخروج من “أوهام الأرقام” و”سراب الأعداد” واستكناه الإرهاب كخطر لا ينتهي بانتهاء مقاتليه، بل كخطر يتلاشى باستئصال مقوماته المحلية والإقليمية والدولية، واجتثاث أسباب وجوده، فالثقافة الداعشيّة أخطر من “داعش”.

كاتب ومحلل سياسي تونسي

المنشور اللاحق المنشور السابق
لا توجد تعليقات
أضف تعليقك
comment url