رباعية الصحاري والجبال والأرياف والمدن

رباعية الصحاري والجبال والأرياف والمدن
الصحاري والجبال والأرياف والمدن
عودا على الأنثروبولوجيا في تمازجها مع الجغرافيا وفي تأصيلها للظواهر الاجتماعية، ذلك أن الجغرافيا التي كثيرا ما رسمت في الذهن على أنّها أركيولوجيا من صنع الزمان والبنيان لا بدّ لها اليوم من استخراج جديد في فضاء المعرفة الإنسانية القادرة على تفسير مواسم الهجرة الإرهابية من مكان إلى آخر، وصولا إلى قلب المدن في بيروت ودمشق وتونس والقاهرة، حتّى نيويورك وبروكسل وباريس ولندن.
في الأصل كانت الثنائية الأولى بين الصحراء والجبال، حيث احتضنت الرمال الساخنة في الصحراء العربية أولى كتابات التكفير والهجرة في القرن الثامن عشر ميلادي رفضا لكافة نداءات التجديد والإصلاح وتأصيلا لمعاني جهنميّة “الآخر”، فإذ بجبال تورا بورا في أفغانستان وجبال الموت في باكستان تستقبل النداء وتحوّل التحريض إلى مشاريع للقتل والانتحار والذبح تحت رايات التوحيد والجهاد، بعيدا عن مدنية المدن وبمنأى عن هدوء الريف وسكينة الطبيعة.
على مدى أكثر من عقدين كانت صحراء بعض العرب تروّج للموت وتسوّق لـ”العدمية الدينية”، وكانت جبال الصومال واليمن بمثابة رجع صدى متهدّج يعيد الصوت في شكل مآس بشرية عبر تفجير فنادق وسفارات ومقاه ليلية. في ذات الوقت كانت المدينة والمدنية العربية والغربية على حد السواء بعيدة عن هذا المونولوغ المسلح متوهمة بأنّ القبضة الحديدية لحراس المدينة أو أدبيات التحرير والتنوير المدبجة في الدساتير والقوانين قادرة على إبعاد الإرهاب من حدودها وضبطه على تخوم جبال دول ساخنة إرهابا وتهريبا.
ولكن بمجرّد استرخاء القبضة الأمنية لحراس بوابات الحدود على وقع ما يسمّى بالربيع العربي، تبيّن أن الريف الواقع على هامش المركز ليس سوى هشيما يابسا ينتظر لحظة افتعال النار للاشتعال بعد أن وضعته الدولة على قارعة مشاريعها التنموية وبمنأى عن الاستحضار والتذكّر والتفعيل إلا في مواسم “الحصاد” ومواعيد “الريع”.
وجدت ثنائية الصحراء والجبال في هامش الأرياف ساحة للتقدّم والاكتساح وضاقت السبل على العواصم ناهيك عن المدن.
هكذا اشتعلت أرياف سوريا من حلب إلى درعا، والتهبت أرياف العراق من الفلوجة إلى البصرة إلى بغداد، وجالت النيران أرياف لبنان، وطوّق الريف الليبي العاصمة طرابلس، ولا تزال أرياف سيناء تعيش ويلات الإرهاب، وما تزال أرياف تونس تقاوم إرهاب التكفيريين وتجاهل المسؤولين الرسميين وانتهازيتهم السمجة، وفي الحالتين تقاوم أرياف سيدي بوزيد والقصرين والكاف النسيان سواء بالخطاب أو الإرهاب.
وعندما يصرّح وزير الخارجية التونسية الطيب البكوش أن البلاد تعيش نير تحالف الإرهاب والتهريب، فهو يؤشر إلى أنّ البلاد لم تستطع حلّ إشكال الجبال والأرياف، فالأولى لا تزال ملاذ التكفير والثانية تشكل مسار الاقتصاد الموازي زمن التهميش.
ثلاثية الصحراء والجبال والأرياف سرعان ما تداعت في شكل تراجيدي في المدن العربية انطلاقا من تونس إلى بيروت فالقاهرة وصولا إلى دمشق وبغداد، وكلّ مدينة مكلومة كانت تدفع فاتورة صحراء لم تهذّب ولم تؤثث بفلسفة الحياة وفاتورة جبال تركت إلى مافيات “المقدس والمسدس”، وفاتورة أرياف موضوعة على هامش التاريخ والجغرافيا وفاتورة عواصم لم تستطع تصدير المدنية والتنمية إلى الريف والجبال والصحراء.
وكما أنّ العالم “معولم” و”مؤعلم” على وقع السماوات المفتوحة وشبكات التواصل الراهن والحيني، فالإرهاب عابر للقارات ومتجاوز لمنطق السببية المحلية الضيّقة، حيث تدفع العواصم الجريحة فاتورة صحار وجبال وأرياف لا تقع في جغرافيتها القطريّة بمعزل عن التفسير الأيديولوجي الحتمي الذي يفسّر الإرهاب بأسبابه المباشرة من حيث الدّعم الذي يلقاه من طرف دول محدودة في مناطق بعينها لمصالح استراتيجية.
وفي انتقاله من الصحراء إلى الجبال إلى الأرياف، يعمل الإرهاب على محو كلّ مظاهر الأنسنة في الأماكن حيث أنّ العقل التكفيري لا يعرف الجغرافيا الملتصقة بالتاريخ، بل هو لا يعرف من المكان سوى المجال. لذا فهو يستبعد الشعر والسكينة من الصحراء، ويهدم الآثار من الجبال ويدمّر الآبار ويسرق الخرفان من الرعاة ويسلب ويغتصب من الإنسانية جمعاء مهنة الرسل والأنبياء.
كاتب ومحلل سياسي تونسي
المنشور اللاحق المنشور السابق
لا توجد تعليقات
أضف تعليقك
comment url