"داعش" وإستراتيجية القرصان مورغان

داعش و التاريخ الانساني

قد تكون داعش خارج التاريخ الإنساني وبعيدة كل البعد عن التراكمية الحضارية والفكرية والثقافية، ولكن هذه المسلمة لا تعفي الباحث من التنقيب في الأصول التاريخية للعمل الإٍرهابي والتحري في الخيوط الناظمة بين “العقول” المدبّرة للفعل الإجرامي، على اعتبار أنّه بعيدا عن الديباجات الدينية لداعش، التي تحتاج بدورها لورشات تحليل حقيقية، فإنّ “عقل” المافيات والقرصنة والسطو المسلح على الأرض والعرض، هو ذاته حتّى وإن اختلفت عناوين الاستيلاء ونوايا السرقة.
"داعش" وإستراتيجية القرصان مورغان
كثيرا ما تتطرق الأدبيات التفسيرية للإجرام الداعشي من خلال ربطه بـ”غزوات” المغول والتتار، حيث كان القتل والسفك والإرهاب جزءا من عملية دعائية نفسيّة تسقط حصون الخصوم قبل الوصول حتى إلى تخوم المدن، إلا أنّ الزاوية الأهمّ في تفسير آلة القتل الداعشية لا تكمن في مداها الدموي وفي مشهدية “المجزرة” وإنّما في المنظومة الداخلية والإستراتيجية المعتمدة في الإحاطة بالعدوّ والقضاء على مقوماته القتالية ومقدراته العسكرية، وهي إستراتيجية تشبه إلى حدّ كبير أسلوب القرصان مورغان (هنري مورغان 1635 – 1688 كبير القراصنة في أميركا الشماليّة واللاتينية وأسبانيا خلال القرن الخامس عشر).
تُبنى منظومة القرصنة لدى زعيم القراصنة، على ثنائيّة “الانتظار والإغارة على القراصنة الكبار”، إذ أنّ مورغان ينتظر حروب القراصنة بين بعضهم البعض ويراقب عن كثب سيطرة القراصنة “الهواة” على السفن المدنية والتجارية، فإذا انتصر أحد القراصنة على غيره واستولت سفينة على مدخرات غيرها من القوت والياقوت، تدّخلت سفن مورغان للإغارة على “المغيرين” وللسيطرة على السفن المنتصرة المحمّلة بالمال، والحصول بذلك على كلّ الغنائم بأقل جهد مبذول.
لدى مورغان فلسفة في القتل والإغارة تقوم على أساس أنّ تحقيق النجاحات العسكرية يكون بالتدخل في آخر أوقات المعركة، وأنّ الانتصار على الخصوم الأقوياء يؤمّن غناهم ويؤصّل لسمعة قتاليّة خارقة في الحرب، بالقدرة على إسقاط الخصم والنيل منه وهو في أعلى درجات قوّته وسطوته.
معارك داعش على أرض العرب لم تخرج عن تفكير القرصان مورغان، بل إنها كانت التجسيد القتالي لمقولته في القرصنة.
ففي سوريا، انتظر التنظيم 3 سنوات من عمر الأزمة السورية واستغلّ حالة الاستنزاف، عسكريا وسياسيا، التي يعيشها الجيش السوري بعد أعوام أربعة من قتاله للفصائل المعارضة على كافة التراب السوري، وتمكّن التنظيم في كافة معاركه المكشوفة مع الجيش النظامي من إحراز التقدّم وبسط بذلك السيطرة على أكثر من نصف مساحة الشام، واعتمد ذات الأسلوب القتالي مع الجماعات المسلحة نفسها، حيث راقب حرب الاستنزاف بين “النصرة” والفصائل الأخرى قبل تسجيل دخول حاسم ضدّ الفريق المنتصر في أرياف دمشق وحلب وإدلب.
في العراق، انتظر التنظيم إغلاق السلطات العراقية المتهاوية لملفّ “المقاومة العراقية” ممثلة خصوصا في كتائب البعث ورجال الطريقة النقشبنديّة وجيش العشرين، بعد سنوات من القتال الضاري بين الطرفين، وبعد خسارة السلطات العراقية لخزانها وعمقها السياسي من السنة العرب عقب سياسات طائفية رعناء من نوري المالكي وأزلامه، حينها انقضّ “داعش” على الجيش العراقي وعلى آبار النفط وعلى أموال البنك المركزي في الموصل والرمادي والأنبار كانقضاض مورغان على سفن اللؤلؤ والمرجان بعد القضاء على سارقيها من القراصنة “الهواة”.
مشهديّة المراقبة والمقاتلة انسحبت على الوضع الليبي، حيث استغلّ داعش حالة المكاسرة القائمة بين الجيش الليبي بقيادة خليفة حفتر، وميليشيات المؤتمر الوطني، وتمكّن من بسط سيطرته على سرت عقب سنوات من قتال عنيف بين الجيش والميليشيات في تلك المدينة التي بقيت دون حسم نهائي بين طرفي القتال.
وما عزمه للتمدد غرب ليبيا إلا ليقين تامّ بأنّ الطريقة باتت سالكة، وأن الطرف الواقف أمامه مستنزف عسكريا وقاصر عن الوقوف أمام جحافل التنظيم وعاجز عن الدفاع عن الثروات والمؤسسات السياسيّة التي يمثلها.
هنا يظهر وهن المقولة السياسية التي يروج لها إسلاميو تونس وليبيا بأنّ ميليشيات فجر ليبيا تدافع عن تونس من الخطر الداعشي، فلا الميليشيات قادرة على أن تكون خطّ دفاع عن دولة، ولا البقاء في حالة التشتت العسكري سيؤهل أصحابه لمقارعة أحفاد مورغان.
الحقيقة التاريخية في هذا المفصل التفسيري كامنة في أنّ إسقاط مورغان، فلسفة وقتالا وعقلية وصولية، يبدأ من إيقاف الحروب البينية، ووضع حد لحروب الاستنزاف داخل الديار عبر توافقات وطنية حقيقيّة على قاعدة “الكل رابح وأول الرابحين الوطن”، حينها فقط يعاد إعمار الأوطان وحينها فقط يسقط “مورغان” وأتباعه وأصحابه.
كاتب ومحلل سياسي تونسي
المنشور اللاحق المنشور السابق
لا توجد تعليقات
أضف تعليقك
comment url