تونس أين.. تونس إلى أين
المشهد السياسي في تونس
مع عودة الإسلاميين بقوّة إلى المشهد السياسي في تونس لا بدّ من استحضار العقل التحليلي والتفسيريّ القادر على تفكيك الحالة السياسية دون استدعاء للخطابات الأيديولوجية والديباجات الديماغوجية المعيقة لكلّ ترتيب وتأثيث لواقع مركبّ يستحيل البحث فيه بمنطق السببية المقيتة.
تونس أين.. تونس إلى أين |
منذ أحداث 14 يناير 2011 كان من الواضح أنّ اليسار التونسي لم يخرج بعد من فعل الرفض وأنّ العروبيين لم ينجحوا بعد في التأليف بين استحقاق “القطرية” وحقوق القومية العربية وأنّ الدساترة لم يفلحوا في استعادة العذرية الوطنية لبناء دولة ما بعد الاستقلال وأنّ الليبراليين كانوا في خضمّ النقاش الحاد بين الليبرالية الكلاسيكية وما بعد الليبرالية الرافضة لأي دولة رسمية مشرفة على اقتصاد السوق وأنّ الأنتلجنسيا التونسية بدأت للتّو في إعادة قراءة الواقع والراهن المحلي بعد سنوات من القطيعة “القسرية أو الاختيارية” إمّا مع الجغرافيا أو الحاضر المليء بجملة من التناقضات والمفارقات.
كان من الواضح أن ثنائية المركز والهامش والقوة والقوى والتيار والتيارات والكيان والألوان ستحكم تونس لفترة من الزمان لا على أساس أنّ النهضة هي من الكيانات السياسية القليلة التي نجحت في الاستمرار لأكثر من ثلاثة عقود ولكن لأنّ النهضة كانت المستفردة في السياق اليميني الهوياتي والمتحكمة بمعجميّة الدين والسياسة والهويّة والمسيطرة لوحدها على اليمين المحافظ، في حين أنّ الوسط كان يغلي بتيارات متنافرة ومتناحرة في المرجعية والتفكير، واليسار كان ساحة لأحزاب متباينة حدّ التناقض على الرغم من نجاح الجبهة الشعبية إلى درجة معتبرة في لمّ شتات مجموعة من رفاق الأممية الكادحة.
وبخطإ تاريخيّ لا يغتفر في السياسة، فُسح “اليمين” أمام النهضة وصارت التعبيرة السياسية الوحيدة في البلاد عن “التيار المحافظ”، إلى درجة أنّها باتت اللاعب الوحيد المتحكم في مجالين واسعين جدّا وهما اليمين المحافظ واليمين القوميّ، ذلك أنّ التعبير السياسي عن القوميين الإسلاميين أو القوميين الهوياتيين لم يدخل بعد في العقل السياسي التونسي – سيّما مع الطابع اليساري للكثير من القوميين- على الرغم من دخولهما إلى المعجمية السياسية العربية منذ منتصف التسعينات على الأقل.
وفي أقل من 4 سنوات، احتكرت النهضة الإسلام السياسي والمرجعية اليمينية المحافظة في البلاد، وعوضا عن لعب التيارات المتباينة مع النهضة في ملعب اليمين والتشجيع على خلق كيانات موازية للنهضة تقاسمها ذات المرجعيّة وذات الأفق بات اليمينيون المحافظون المعارضون للنهضة كالتائهين في صحراء السياسة ترفضهم الأحزاب من مختلف العائلات الفكريّة وتلفظهم الحساسيات السياسيّة، وأصبحوا كـ”المغتربين السياسيين” بين واقع التمثيل الحزبي الضيّق والتمثّل الذهني الواسع لمفاهيم الهويّة والجندرة والإنسان والأمة والتونسة..
وعلى الطرف النقيض من الحالة الاحتكارية للمدرسة الأيديولوجيّة لدى النهضة، عجز نداء تونس عن استيعاب الوسط على الرغم من ديباجاته الفكرية الذاهبة في هذا الاتجاه ناهيك عن اليسار الذي تسعى الجبهة الشعبية إلى حيازة المظلة الأكبر للتمثيل في ظلّ استمرار التباين بين الرفقاء الفرقاء.
ومع إصرار نداء تونس على الرهان الحصريّ على ورقة الغضب الشعبيّ ضدّ حركة النهضة والترويكا، أضاع الحزب من بين يديه فرصتين استراتيجيتين، الأولى متمثلة في التموقع السياسيّ ومن ثمّة احتكار “مرجعية الوسط” في ظلّ وسطية أنثروبولوجية وفكرية ودينية شعبية، والثانية متشكّلة في العمل على بناء التنظيم السياسي لا على أساس التناقض مع النهضة والإسلاميين ولا وفق الاجتماع على الشخصية الكاريزماتية وإنما على أساس طرح البديل وفق مرجعيّات “الأصيل”.
سؤالان لا بد على كل حزب سياسي أن يطرحهما على نفسه حتّى تتحقق سبل النجاح، الحزب وتونس أين؟ تونس والحزب إلى أين؟.. توقّف نداء تونس مليّا عند السؤال الأوّل وتجنّب غرورا أو حبورا الإجابة عن السؤال الثاني، وهذا إشكال محوري آخر.
اليوم يتجنّب كافة الفرقاء السياسيين الإجابة عن السؤال الأول “تونس أين؟” لأنّ تونس التي تعيش واقع الضياع إنما هي تدفع فاتورة اضطرابهم وعجزهم عن الارتقاء إلى مستوى اللحظة التاريخية، أمّا السؤال الثاني “إلى أين؟” فإجابته الجزئية عند الجغرافيا المشتعلة في ليبيا والمضطربة في الجزائر والحارقة في سوريا والعراق، أمّا سؤال “كيف؟” فسيجيب عنه الزمن وحده.
كاتب تونسي