تونس: الخامسة وسادسها الفشل
هي الخامسة وسادسها الفشل “المؤسّس”، تحوّل الحراك التونسي، الذي سمّي ثورة إلى مجرّد ذكرى عابرة تختزل في سجّلات الذاكرة الجماعية المهترئة والمخترقة على وقع تلازميّة مفارقتيّة بين الانتفاض والعجز عن البناء والتأصيل.
تونس: الخامسة وسادسها الفشل |
الخامسة من عمر الإنسان هي سنّ التعلّم والإدراك، والخامسة من عمر الثورات هي سنّ البناء والتراكم، والخامسة في زمن الولايات الانتخابيّة، رئاسية كانت أم برلمانية، هي توقيت التغيير أو التجديد، والخامسة من سنّ الأجيال هي ميقات تبديل المفاهيم والمصطلحات، والخامسة في زمن المخططات المحلية والجهوية هي موعد الإنجاز والانتهاء، والخامسة من عمر الأزواج هي زمن الاستقرار والقرار والخيار النهائي. أمّا الخامسة في زمن الانتفاضة العربية فهي “اللازمن” واللانهاية في الفشل الجماعي وفي أنهار الدماء المراقة على الجغرافيا العربية، وفي انسداد أفق الحلول السياسية والاقتصادية، وفي مشوار الاحتراب اللفظيّ والحروب الطائفيّة البغيضة.
تستحيل الذكرى في الخطاب والسياسة العربيين إلى هروب من استحقاق الفعل في الحاضر والتجذير في المستقبل القريب والمتوسط، الأمر الذي يفسّر مسلكيّة الترحيل إلى الماضي والأمس.
أوّل مراحل إجهاض الثورة تنطلق من فكرة الذكرى حيث تصبح الانتفاضة مجرّد مرحلة تاريخية من عمر الوطن يلتمس من المجموعة الوطنية الاستحضار والبكاء على شهداء الاستبداد والفساد، دون أي وفاء للمطالب الاجتماعية والاقتصادية والسياسية وحتّى الاستراتيجية الدبلوماسيّة التي انفجرت من أجلها الثورة.
“فلكلرة” 14 يناير وتحويلها إلى مناسبة سنويّة لرفع الأعلام والتزيّن بألوان الجمهوريّة وترداد الأغاني الوطنية والقيام بمسيرات تبدأ زفرات وتنتهي جماعات قليلة متنافرة تتبادل بينها الاتهامات والتخوين، هي واحدة من أشدّ وأهمّ المزالق والكوارث المقوّضة لحقيقة الثورة، ذلك أنّ “الفلكلرة” تسجن الحدث في الشكل وتحصره في ظاهر الأشياء وتعطي انطباعا كاذبا بالرضا الجماعي عن استيفاء الحقّ للشهداء الأحرار عبر منحهم يوما دوريا في السنة عوضا عن إعطائهم كلّ السنوات وجميع الأعمار.
أليس من باب المفارقة أن تسحب الحكومة الجديدة من الشهداء والجرحى الحقيبة الوزارية الوحيدة الخاصة بهم، كانت تسمى كتابة الدولة لجرحى وشهداء الثورة، أيّاما قليلة قبل إحياء الذكرى الخامسة للثورة، ثمّ أليس من باب التقاطع الهجين أن تحيي ذات الوجوه المعدومة والمعطلّة عن العمل ذكرى الثورة سنويا دون وجود أيّ قبس أمل لها في التشغيل أو في تأمين حدّ أدنى من الكرامة الإنسانية، في حين أنّ الاعتبار القيمي يناط بمجموعة من المرتزقة السياسيين المستكرشين أيام النظام السابق والحالي أيضا.
صارت الثورة فلكلورا شعبيا ينتشل من غياهب التاريخ والماضي كلّما أراد الفاعل السياسي ادّعاء عذريّة نضاليّة، أو سعى إلى تعبئة شعبيّة ضدّ الإرهاب قصد حماية منصبه لا دفاعا عن الشعب، وكلّما احتدم السجال السقيم لأغراض انتخابية مباشرة إلا وتمّ العزف على أوتار “العصبيات” الثوريّة التي سرعان ما يتمّ الانقلاب عليها بمجرّد الوصول إلى المبتغى الانتخابيّ.
فشلت الثورة، ونجح “التثوير” على وقع ضعف المؤسسات وانسداد الأفق وعجز الفاعل عن الإنجاز والفعل والتغيير. اليوم، يترك الشعب ومعه الشباب الثائر لقمة سائغة للتثوير الديني التكفيري لينتهي به المطاف حزاما ناسفا في شارع محمد الخامس بالعاصمة تونس.
اليوم ينجح التثوير ضدّ الثورة في التباكي على الاستبداد والفساد والاستعباد وفي مقايضة الجوع الآمن بالحريّة المفقرّة، وعوض البحث في أسباب فشل زين العابدين بن علي وإفشال الثورة يعمل “التثويريون”، وأظنهم نجحوا، على خلق ثورة موازية فيها شتات من الدولة العميقة ووجوه من الإخوان ومن الضحايا السابقين لبن علي.
وتحت مسميات المصالحة التاريخية بين الإخوان والدولة العميقة، يقع التنافر والتباين الاستراتيجي بين الشعب والثورة كفرصة تاريخيّة أولى وأخيرة للتونسيين ولكافة العرب لدخول التاريخ والجغرافيا.
كاتب ومحلل سياسي تونسي