صناعة النسيان
الهبة الفلسطينية
اجتبت معظم وسائل الإعلام العربية التطرق إلى “الهبة الفلسطينية” كخبر عابر وكمعطى إعلامي هامشي لا كحدث استثنائي سيؤثر في مسيرة القضية وفي مسار التسوية المتعثرة وكفعل استراتيجي فاصل بين ما سبقه وما سيلحق به.
غياب الحدث الفلسطيني صلب اهتمامات القنوات الفضائية العربية – إلا قليلا- يستدعي لا فقط الحفر المعرفي العميق في نظرية “الأجندا” حيث تسقط المؤسسات الإعلامية أولوياتها التحريرية وخطها الاتصالي على المشاهد عبر التركيز على بعض القضايا في مقابل تهميش أخرى، وإنما يستوجب البحث أيضا في سيكولوجية الجمهور العربي زمن ما يسمى بـ”الثورات العربية”.
ذلك أنّ ثنائيات “الظالم والمظلوم” و”المستبد والضحية” و”القنبلة والحجارة” و”الدمار والإعمار” و”الحصار والاجتياح” باتت مكررة في معظم العواصم العربية التي أتى عليها “الربيع العربي” بطريقة تحولّت معها كل هذه الثنائيات إلى شريط من الصور المنسحب على ساحات الدماء والخراب في العالم العربي.
صحيح أنّ تشبيه الاحتلال الاستيطاني بالمآسي الداخلية مجانب للصواب انطلاقا من عدة مقاييس وأبعاد، بيد أنّ استحضار ذات المعجمية النضالية الثورية الفلسطينية وإسقاطها على تحركات شعبية في هذا القطر أو ذاك، نال الكثير من “وجدانيّة” القضيّة في العقل والعاطفة الشعبية ومنح لتلك التحركات ما لا تستحق من قدسيّة النضال الفلسطيني ضدّ العدوّ الصهيونيّ.
عمليّة استنزاف القضية الفلسطينية “معجميا ووجدانيا وسيمولوجيا” أيضا أفضت إلى “استفراغ” عاطفي عربي شحن في وقت لاحق بأعداء مفترضين ووهميين في الكثير من الحالات أدى إلى تغيير بوصلة العداء الاستراتيجي وتحوير التناقض العضويّ من العدو الصهيوني إلى مناوئين محليّين من نفس الوطن الواحد.
“فلسطنة” الواقع العربي بدمويته وبدماره وتوظيف المشهد النضالي الفلسطيني في الثورات الملونة غيّرا بصفة ملحوظة من المعادلات الاستراتيجية حيث استحالت كلّ الثنائيات محصورة في “شعب يثور ونظام يبيد” لا من أجل الدفاع عن الحقوق المشروعة للشعوب المنتفضة ضد الاستبداد والفساد والاستعباد، وإنما قصد تحويل الصراع الداخلي – الذي قد يكون صراع استحقاقات سياسية واجتماعية واقتصادية – إلى صراع وجود لا تسويات فيه ولا مصالحات.
هنا بالضبط ضاعت القضية الفلسطينية من خارطة الإدراك والتصور والتمثل، بعد أنّ باتت الجغرافيا العربية شبيهة بالجغرافيا الفلسطينية من حيث دموية المشهد، وأصبح للعدو الإسرائيلي أمثال كثر وللنضال الشعبي الفلسطيني أشباه عديدة، انتزعت من القضية الفلسطينية قدسيّة المعركة وقداسة الإجماع الشعبي العربي على أنّها حرب الوجود الأولى والأخيرة في العالم العربي.
لم يكن استخدام مصطلحات “المقاومة” و”الاجتياح” و”الكتائب” و”الاحتلال” عفويا ضمن الخطاب الإعلامي لمعظم القنوات الفضائية التي اشتغلت على صناعة نسيان القضية الفلسطينية عبر خلق “مرادفات” ميدانية لها في جغرافيا العرب.
اليوم، يستقبل المزاج العربي الهبّة الفلسطينية بكثير من الرتابة والتجاهل لا فقط لأنّ ذات المشهد شاهده على الهواء في أقطار عربية عديدة، ولكن أيضا لأنّ حرب الوجود صارت ضدّ أعداء محليين وإقليميين لا ضدّ الكيان الصهيوني، الذي وإن أمعن في الدم الفلسطيني قتلا وتعذيبا وتنكيلا، فإنّ العقل العربي المخترق صار يساوي وفي بعض الأحيان يقدّم أعداء آخرين عليه.
وهي الحالة التطبيعية التي اشتغلت عليها إسرائيل منذ أزيد من نصف قرن حيث تسقط الصورة الذهنية والنمطية عن الإسرائيلي كقاتل لا بالكف عن التصفية والقتل، بل على العكس تستمر آلة الحرب في عملها، وإنما باستنساخ الصورة القاتمة على شريحة واسعة من العرب ولاسيما الفاعلين العسكريين فيهم… وبالتالي يتلاشى المبنى بتماثل المعنى.
إن كانت اليوم من حرب فلسطينية ثقافية على الأقل، فلتكن حرب استرداد الرمزية العربية، وحرب استرداد المعجميّة النضالية التي لابدّ أن تكون حكرا على صراعات الوجود التاريخية، وأن توضع الخلافات الأخرى في سياق التباعد الذي لا يصل في أسوأ الحالات إلى التناقض الإستراتيجي والاستعصاء المحليّ، وبالتالي تؤصل الذاكرة من جديد أو على الأقل جزء منها.
كاتب ومحلل سياسي تونسي