عن العرب والأرمن…وندم بلير بلا ثمن
كارثية احتلال العراق
ان يعترف رئيس الوزراء البريطاني طوني بلير بـ”كارثية” احتلال العراق وإسقاط النظام بالقوة العسكرية وبعلاقة غزو العراق باكتساح تنظيم “داعش” والمجموعات التكفيرية الأخرى لأرض الرشيد.
عن العرب والأرمن |
لا يعني أنّ الدبلوماسي البريطاني دخل في مرحلة من النقد الذاتي والمراجعة العميقة لسياسته في الشرق الأوسط، وإنما يعني أنّ الرجل مطمئن تمام الاطمئنان لعدم ملاحقته قضائيا سواء على المستوى الدولي أو الإقليمي.
يدرك طوني بلير أنّ عامل “الزمن” غير معتبر لدى كثير من الفاعلين السياسيين في العالم العربي، ويعرف أيضا أنّ تعامل الرأي العام العربي مع الأحداث المؤلمة تقف عند حدّ “الانفعال” الأجوف و”الارتجالية الجماهيرية” وهي أعمال عفويّة لا ترقى إلى مستوى التأسيس أو التأصيل، ناهيك عن “الاعتبار” من فواجع الماضي القريب قصد تلافي تكراره أو اجتراره.
“صحوة ضمير” بلير عن احتلال العراق أو “توبة” سيلفيو برلسكوني عن استباحة ليبيا في 2011، ناهيك عن اعتراف مدير الوكالة الذرية السابق محمد البرادعي بأخطاء المنتظم الأممي في تقدير “القوة” النووية العراقية قبل الغزو الأميركي لأرض الرافدين، كلّها عبارات تسويقية تقوم على استغلال “انحسار الذاكرة” لدى العالم العربي وعلى “الترويج” لأنفسهم كفاعلين سياسيين في الحاضر والمستقبل القريب في رقعة الجغرافيا العربية.
وهنا يكمن الفرق بين العالم العربي الذي استساغ الظلم والظالمين والظلام، والمجتمعات المتيقّظة التي ترفض أي ندم لا يعقبه اعتذار علني أولا، واعتراف بشبكة المتورطين ثانيا وتعويضات مادية وسياسية لكافة ضحايا الغزو من أبناء الشعب العراقي.
وهو البوْن الحاصل بين الأرمن الذين يضربون على كافة السياسيين الأتراك طوقا رمزيا وماديا وسياسيا وأخلاقيا كينونته أنّ “الندم” و”إسكاب الدموع″ لا يكفيان ولا تندمل معهما جراح أمّة عانت الويلات من الجيش التركي إبّان الحرب العالمية الأولى، طالما أنّه لا يستوفي كافة متطلبات الاعتذار الحقيقي، وبين العرب عامة، والعراقيين خاصة، الذين لا يحسنون توظيف “مقولات الندم” لتحويلها إلى مكتسبات سياسية ومادية وأخلاقية لصالح العراق ناهيك عن رسم حكومتي بلير وبوش الابن في تلك الفترة بوصمة العار في جبين “الغرب” وبالتالي إقصاؤهما نهائيا من السياسة والتاريخ والدبلوماسية.
هناك فاتورة سياسية وأخلاقية وماديّة لا بدّ أن يدفعها طوني بلير للعراقيين أولا، وللبريطانيين ثانيا الذين شاهدوا كيف تحولت “إمبراطورية الأمس القريب”، الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس، إلى وكيل ثانوي لأصيل مركزي أميركي تسوّق لجرائم إدارة البيت البيضاويّ آنذاك تحت طلب الشركات الكبرى للنفط والغاز والسلاح، ولئن كان لليسار البريطاني قادم على مهل من شرعيّة أخلاقية وسياسية وإستراتيجية، فلتكن شرعيّة إعادة فتح ملفّ احتلال العراق في 2003 والتعويض الاعتباري والمالي، عبر إعادة الإعمار ومكافحة الإرهاب، لعراقيي اليوم والغد، والاعتذار الرسمي والعلني والصريح عن احتلال مقيت استحال معه العراق إلى ملعب لكافة اللاعبين الإقليميين وساحة للتدخلات الطائفية.
لا يزال أكراد تركيا، المتمركزين بين جبال الأناضول وهضاب كردستان الكبرى، متمسكين برفضهم لأيّ اعتذار تركي عن جرائمه في حقهم لا يستدعي “تعويضات” حقيقية واعتراف بحقوقهم التاريخية والسياسية والثقافية رغم كافة قرابين “الندم” التي وضعها أردوغان وحكوماته السابقة والحالية بين أيادي رجال “البي كي كي”.
قد يكون الاستحقاق الرمزي والثقافي العربي اليوم كامنا في “تأصيل” مفاهيم المطالبة بالحق الجماعي ومقاومة آفات الزمان والنسيان في ذاكرة الإنسان العربي وعدم قبول “توبة” مجرمي الحرب بعد خراب البصرة، فالجغرافيا العربية ليست قمرة اعتراف في كنيسة مهجورة يرتادها مستبدوّ القوم بعد ردح من زمان الفساد والإفساد.
وأمام المخطئين من أمثال بلير وبوش خياران لا ثالث لهما؛ إمّا واجب الاعتذار والاعتراف والتعويض للشعب العراقي المكلوم، وإمّا القبول بأن يكونا في “سلّة” التاريخ وأن يدرجا في الذاكرة السياسية العالمية مع مجرمي “النازية” والصهيونية”. أمّا الندم بلا ثمن فلا وجود له ولا قبول به.
كاتب ومحلل سياسي تونسي