"علي".. عمل سينمائي يحفر في الواقع الأميركي من خلال حياة محمد علي كلاي
عمل سينمائي عن حياة كلاي
القيمة الفنية لمخرج الفيلم وللممثل ويل سميث، تكمن في قدرتهما على تصوير حياة محمد علي كلاي كنزال طويل، وفي تقديم التحديات التي واجهته كجولات جديدة من جولات الصراع.
السبت 2019/02/23
قد تكون مسالك الممثل العالمي ويل سميث إلى تخليد اسمه ضمن الممثلين الأفضل أداء وإقناعا في العالم، كثيرة وعديدة، ولكنّ أهمها في تقديرنا كامن في قدرته على تجسيد أسطورة الملاكمة في الوزن الثقيل محمد علي كلاي وكفاءته في التماثل النفسي والمعرفي والمخيالي معه، في فيلم “علي”.
لم يكن فيلم “علي”، فيلما توثيقيا لحياة بطل الملاكمة العالمي محمد علي كلاي، ولا استرجاعا كرونولوجيا لمراحل حياته، ولا أيضا سيرة بيوغرافية يضيع خلالها السياق العام مع الملـمح الخاص، بل كان الفيلم بمثابة حفريات في واقع الحال الأميركي إبان مرحلة الستينات والسبعينات من القرن الماضي، وسردا لتداخل طبيعة المرحلة مع شخصية البطل، وتفاعل الإطار العام مع كلاي وفاعلية البطل ضمن سيرورة الأحداث الجارية في الولايات المتحدة.
كثيرة هي أفلام الوجوه (البورتريه) أو الملـمح التي تغوص في أعماق الشخصية المحورية، وينسى معها الجمهور أنه حيال “بطل في التاريخ” ليتناهى إلى ذهنه أنه أمام “بطل فوق التاريخ”. وعديدة أيضا هي السرديات المؤسطرة للشخصيات والتي بمقتضاها يصير الإنسان أعلى من المكان والزمان، وهي في المحصلة مزالق فنية قد تضعنا في خانة “صناعة البطل” أو ملامسة “البطل المتخيل”، وهي مسلكية ولئن رامت في بعض سياقاتها الإنصاف التاريخي ورد الاعتبار الرمزي، إلا أنّها تضع البطل في منزلة “أنصاف الآلهة”، والفن منزلة الدعاية والملـمح منزلة التمجيد.
يأخذك فيلم “علي” إلى مراحل تاريخية مهمة ومفصلية من حقبة الستينات والسبعينات في الولايات المتحدة الأميركية، عبر استقراء دقيق للميكانيزمات السياسية والثقافية لتلك الفترات مع ما حملته من إرهاصات التأثير الكبير للميديا على الفاعل السياسي الرسمي والقضائي، وبداية انتقال المهمشين نحو دائرة المركز.
عبر التركيز على المجال الخاص بالسود الأميركان إبان حقبة ما بعد الحرب العالمية الثانية، يأخذنا المخرج، مايكل مان، إلى فضاء التمرّد والمطلبية الحقوقية التي باتت حينها تطبع حيز السود في الولايات المتحدة.
فمن موسيقى الجاز، إلى الاجتماعات السياسية، إلى “مالكوم إكس” بطل التحرر من العنصرية المقيتة، ومن استبداد “جماعة أمة الإسلام”، تتلازم سياقات الانتفاضة والرفض مع الشخصية المحورية “محمد علي كلاي”.
ولأن السياق يطبع الفرد، والعكس صحيح، فقد خاض كلاي عدّة منازلات مع منافسين رمزيين واجتماعيين وسياسيين أكثر من نزالاته مع منافسيه المباشرين في حلبة الملاكمة. كان نزاله مع النخبة السياسية الرياضية التي أبت إلا أن تسميه “كاسيوس″ عوضا عن “محمد علي كلاي”، وترفض أن يكون له اختيار حر لاسمه ولقبه ورسمه، أوّل النزالات الرمزيّة، وقد انتصر فيه.
كان نزاله الآخر مع النخبة الإسلامية من السود، والتي رغبت في تدجينه وتوظيفه ضمن الدعاية لأنشطتها ولغرفها السوداء، فأبى إلا أن يكون مسلما كما يريد هو، لا كما تبتغي “الجماعة”، وأن ينعتق من استعباد الأخيرة، فمن رفض عبودية البيض باسم المدنية لن يقبل استعباد الجماعة باسم الدين.
أمّا نزاله المرير فكان مع النخبة السياسية القضائية التي نزعت منه لقب بطل العالم في الملاكمة عقب رفضه المشاركة في حرب فيتنام، وأن يكون كما يقول في الفيلم جزءا من الحرب ضد الأبرياء وضد أصحاب الأرض. “حربي ليست هناك، حربي هنا في الولايات المتحدة، ضد من يرفض إعطائي حقي ومن يرفض اعتباري أميركيا ومواطنا ومن يأبى الإقرار بحقوقي المدنية والسياسية والرياضية، أنتم أعدائي، أما هم (يعني في الفيتنام) فأصحاب الأرض”. بهذا التصريح، واجه كلاي القضاة والصحافيين و”السيستم” بعد أن قضت المحكمة بتعليق نشاطه الرياضي في الولايات المتحدة وسحب جواز سفره وانتزاع لقب بطل العالم وتسليط عقوبات مالية جائرة.
انعتاق من عبودية الجماعة
تأثر كلاي في تفكيره بمالكوم إكس، حيث يصور الفيلم تعود كلاي على حضور خطب مالكوم، والأكثر من ذلك أن الأخير كان سببا في زرع بذور الرفض لدى كلاي ضد “جماعة أمة الإسلام”، ورئيسها “إلايجا محمّد”.
استشهد مالكوم إكس برصاص “حركة أمة الإسلام”، وهو في خضم الدفاع عن مبادئ الإسلام وفي صميم إبراز أنّ الإسلام مسلكيّة تحرّر وانعتاق من كافة العبوديات، ومع دمائه تكرست لدى محمد علي كلاي قناعة بأنّ “العبودية” واحدة الجوهر، والحرية واضحة الكينونة حتّى وإن تغيرت العناوين.
يسلّط فيلم” علي” الضوء بكل جرأة على الميكانيزمات العميقة المستحكمة في المشهد الرياضي والسياسي في الولايات المتحدة، والدور الذي يلعبه المال والإعلام في تغيير التوجهات والقرارات وفي صناعة الرأي العام.
الإعلام والمال والسلطة الرمزية
ولئن كان للإعلام المؤيد لقرار الحرب على فيتنام، دور في تسليط أقصى العقوبات المالية والإدارية على محمد علي كلاي، فإن الإعلام ذاته سيلعب دورا كبيرا في إعادته إلى حلبة الملاكمة.
يتطرق الفيلم بكل دهاء وحرفية فنية إلى التحقيقات الاستقصائية ضد الرئيس الأميركي ريتشارد نيكسون ضمن ما يعرف بفضيحة “واتر غيت” والتي أفضت لا فقط إلى استقالته، بل إلى تغيير شبه راديكالي في الرأي العام الأميركي حيال قرار الحرب على فيتنام، لاسيما وأنّ أعداد القتلى من الجنود الأميركان لم تكن خافية على أحد والفشل الأميركي الذريع في تحقيق نتائج عسكرية على الأرض كان أبعد من سياق المتوقّع والممكن.
وفي هذا المفصل لا يُمكن تجاهل التحقيقات الاستقصائية البكر للصحافي سيمور هيرش والتي كشفت حجم وهول المجازر الأميركية في فيتنام، الأمر الذي أسقط مقولة “الحرب المقدسة” وأخلاقيات الصراع لدى المقاتل الأميركي.
يُصوّر الفيلم الترابط السببي الذي حصل بين التغيير في المزاج العام حيال الحرب وبداية الانفتاح الإعلامي على كلاي، وتسابق المستشهرين والمانحين والمراهنين من أجل تأمين عودة كلاي إلى حلبات الملاكمة.
ولئن جعل هذا الترابط الثلاثي عودة كلاي إلى الملاكمة ورفع العقوبات عنه، نهاية، فإن من بين أسبابها ارتفاع نسب المشاهدة للبرامج الحوارية التلفزيونية لمحمد علي كلاي إبان تلك الفترة ونجاحه في تقديم نفسه كمحور استقطاب للمشاهدة الجماهيرية التلفزيونية وفي تصوير ذاته كصانع للفرجة وللعرض الرياضي الفني.
هكذا أوضح الفيلم قيمة الإعلام الجماهيري -وخاصة التلفزيون- في نقل الصورة والصوت ومعهما جزء كبير من الأفكار والتمثلات والآراء إلى الجمهور، وفي تحوّله إلى سلطة حقيقية قادرة على التأثير على مجرى الأحداث وتسليط الضغط على الفاعل الرسمي. ولئن عاد كلاي إلى الملاكمة فلأنه نجح في تقديم نفسه كمادة إعلامية جالبة للجمهور والمتابعين ومن ورائه المانحون والمستشهرون، وفي اعتماده على أسلوب رُكحي قوامه الصراع والشهرة والنكتة والحضور الذهني، وكلّها صفات موجودة في الأداء الإعلامي لمحمد علي كلاي.
نزال ضد الزمن الرياضي
مع عودته إلى الملاكمة، كان على كلاي أن ينازل عدوا جديدا غير أولئك الذين واجههم على حلبات الصراع، ألا وهو السن الذي تقدم به بالمقارنة بمجموعة الملاكمين الشبان الذين احتلوا الحلبة في غيابه ونعني بهم جو فريزر، وجورج فورمان، وليستون.
نزاع كلاي ضد الزمن الرياضي وضد المشككين، الذين ارتابوا في حقيقة إمكانية صموده أمام فريزر أو فورمان، ناهيك عن استعادته لبطولة العالم في الملاكمة، لم يكن هينا ولا بسيطا ولاسيما أنه خسر المنازلة الأولى ضدّ فريزر في عام 1971.
ولأنّ الزمن لا يهزمه إلا التاريخ، فقد قوض كلاي استبداد الزمن بأن خاض ضدّ جورج فورمان نزال القرن في 30 أكتوبر 1974 بعاصمة الزايير سابقا كينشاسا، وهو النزال الذي لا يزال محفورا ومشهودا إلى يوم الناس هذا. وعلى عادة المخرج مايكل مان الذي يحفر عميقا في حقيقة الظواهر ويلامس الحقائق المخفية، فقد سلط الاهتمام على التطويع السياسي والمالي للتظاهرات الرياضية.
إذ بين كيف استغل رئيس الزايير في ذلك الوقت، موبوتو سيسي سيكو، النزال، من أجل تلميع صورته وصورة نظامه الملطخ بسجل سيء في حقوق الإنسان والحروب الأهلية، وفي سبيل التشابك مع رجال الأعمال الذين قدموا إلى الزايير رفقة الوفود الإعلامية المتقاطرة على كينشاسا التي باتت في ليلة 30 أكتوبر 1974 عاصمة للعالم برمته، وحظيت المنافسة بين كلاي وفورمان بأعلى نسبة مشاهدة في تاريخ الملاكمة.
أمّا الممثل ويل سميث، فكان أداؤه الفني عاليا، سواء من حيث تمكنه من تقنيات الملاكمة لدى كلاي والتماثل الرهيب الذي يجعل المشاهد يكاد لا يفرق بين الأصل والنسخة الفنية، وبين قدرته على تمثل شخصية كلاي المتعالية في حين والمرهفة في أحيان، والهادئة في وقت والمتمردة في أوقات.
يتوقّف الفيلم عند منازلة كلاي – فورمان، في 1974، أي في اللقاء الذي استرد فيه كلاي حزامه كبطل للعالم في الوزن الثقيل، وهو اجتهاد من المخرج قابل للنقاش والمجادلة لاسيما مع إمكانية التوقف عند لقاء كلاي وفريزر في العاصمة الفيتنامية مانيلا في الأول من أكتوبر 1975، حيث يعرف هذا النزال بالمواجهة التي جعلت كلاي يتربّع على مشهدية الملاكمة في العالم، إضافة إلى إمكانية التوظيف الفني لفيتنام كنقطة بداية في مسار الفيلم وكنقطة نهاية أيضا.
وعلى الرغم من هذه الملاحظة إلا أنّ فيلم “علي” تمكن من استحقاق الربط بين السياق والشخص، وبين الإطار والذات، والهامش والمركز، واستطاع أن يغوص بالمشاهد في أعماق الظواهر وأن يستجلي الميكانيزمات الضمنية التي تستحكم في تحركات من يظنهم المشاهد “الفاعلين الحقيقيين”.
تدوير الزوايا الفنية حول كلاي، مكنّت المخرج من الغوص في المجال الخاص للملاكم وتتبع علاقاته الاجتماعية مع عائلته الضيقة والتي عرفت عواصف عاطفية كثيرة نظرا لمغامرات كلاي بين قلوب العاشقات ونظراتهن المغرية، وأمواج عاتية بسبب الأزمات المالية التي عاشتها عائلة كلاي بسبب العقوبات المالية المسلطة عليه ومنعه من خوض نزالات على مدى 5 سنوات كاملة.
بل إن تشكيكا في قدرته على مواجهة فورمان، وجهته الزوجة الثانية لكلاي، بعد أن اكتشفت إعجابه بامرأة (ستصبح زوجته الثالثة لاحقا)، ورغم ذلك استطاع كلاي أن ينتصر على فورمان وعلى كافة الرهانات.
أمّا علاقته مع فريقه الرياضي، فتلك قصة أخرى. قصة الصداقة والإخاء بين الإسلام واليهودية والمسيحية، وقصة التقارب بين الإيمان إلى حدّ التصوف، والتصوف إلى حدّ الكفر، وفي كل الحالات كانت علاقته مع مرافقه اليهوديّ أكثر من مجرد مرافقة رياضيّة.
“أرقص مثل الفراشة وألسع مثل النحلة”، عبارة كثيرا ما يرددها كلاي في تجسيده لتقنية مواجهته للخصم، والحقيقة أنها العبارة التي حكمت حياة الملاكم العالمي محمد علي كلاي، فهو يجيد الرقص بين الحبال والمصابرة أمام المشاكل ولا يتردد في الإجهاز عليها عندما تحين الفرصة. وقد تكون من أسباب نجاحه أنّه يجيد الوخز كما يجيد الرقص ويعرف حين التراقص ويدرك وقت القصاص.
أما مدربه، الأميركي من أصل إيطالي، أنجيلي دندي، فقد أحسن مخرج الفيلم في تصويره، سواء من حيث الملبس أو المظهر أو القامة، أو الدهاء الإيطالي في توجيه النصائح وفي تأمين الدفاع قبل الهجوم.
يكشف الفيلم عن الدور المحوري للمدرب في الملاكمة، عند استحثاث الحلول وتخفيف الضغط على ملاكمه، وتسليطه على الخصم.
ما بين دندي وكلاي، علاقة أعمق من علاقة مدرب برياضي، وعلاقة وفاء زمن العقوبات المالية والرياضية على كلاي، وعلاقة احترام وتقارب بينهما دعت كلاي في واحد من مؤتمراته الصحافية إلى تأنيب علني لمنظّم المنازلات الرياضية المعروف بـ”الكينغ” بعد أن وصف الأخير ديني بـ”الإيطالي القصير”.
“ارقص يا محمد علي”، هكذا كان يصيح دندي لكلاي، داعيا إياه إلى تغيير المواقع وتبديلها باطراد لاستنزاف الخصم قبل الإطاحة به، وبالفعل رقص كلاي وأتعب التحديات التي واجهته، وما أكثرها، ولئن تمثل المنافس النزال كلقاء من أجل حزام البطل، فإنّ كلاي كان يتصوّره جولة من جولات الملحمة الإنسانية التي صاحبته طيلة عمره.
هنا، تكمن القيمة الفنية لمخرج الفيلم وللممثل العالمي ويل سميث، أي في قدرتهما المتناهية على تصوير حياة الملاكم محمد علي كلاي كنزال طويل، وفي تقديم المناجزات والتحديات التي واجهته كجولات جديدة من جولات الصراع، وفي تمثّل الملاكمة كقدر لكلاي سواء داخل الحلبة أو خارجها.
ذلك أنّ البطل هو الذي ينتصر في الرياضة، أما البطل العالمي فهو الذي يفوز في إطار التنافس الرياضي وخارجه أيضا.