داعش وإسرائيل وازدراء الآخر الإثيوبي
داعش و اسرائيل
نفس العقل الذي اختلق إسرائيل هو ذاته الذي خلق “داعش”، ونفس المنظومة الأخلاقية والسياسية والإستراتيجية التي انبثقت من لدنها “الدولة الإسلامية في العراق والشام” هي عينها التي ولدت من صلبها “الدولة الصهيونية في فلسطين الشام”، ليس في الأمر انصياع لنظرية تآمرية توجه الاتهام للإمبريالية الاستعمارية بوجهها الحديث والمعاصر، وإنما هو بحث في التقاطعات الفكرية والذهنية لكيانين “وظيفيين” في الوطن العربي.
داعش وإسرائيل وازدراء الآخر الإثيوبي |
تقاطعات فكرية وإستراتيجية نلخصها في ثلاث نقاط محورية، وهي تمجيد الذات إلى حدّ السقوط في “تأليه الأنا الجمعية”، وازدراء “الآخر” إلى حدّ الشيطنة، ومع كل ذلك تسييج حدود كيانهما ببحر من دماء الأبرياء.
وبقدر ما تكون الأنا مقدسّة وضيّقة ومحدّدة، بقدر ما تكون دائرة “الآخر” الجهنمي، وفق مقولة جون بول سارتر، كبيرة وشاسعة وتتسع لكافة الطوائف والملل والنحل.
الضحايا الإثيوبيون الذين استشهدوا على يد الدواعش وامتزجت واختلطت دماؤهم بمياه البحر الأبيض المتوسط، هم في المحصلة ضحايا لصورة نمطية أحادية تقوم على الشيطنة والتقديس، هي ذات الصورة التي يرزح تحتها “يهود الفلاشا” الإثيوبيون في الكيان الصهيوني حيث يعاملون معاملة الفائض البشري والزائد الإنساني على الحاجة اليهودية في الكيان الصهيوني.
ولم تكن السكاكين التي جزّت رقاب الإثيوبيين على طول الساحل المتوسطي، سوى نسخة معدّلة من ذات السكاكين الصهيونية التي عملت على وضعهم في موضع المواطنة الثالثة، ودفعهم في خطّ الهجوم الأول في حروب الكيان الصهيوني.
وبين الحالتين يدفع الإثيوبيون فاتورة انهيار المنظومة الأخلاقية وتفكّكها، وفي الحالتين أيضا يبقون أسرى لعقل إقصائي دغمائي يرفض الإقرار بغير “أناه”، ويأبى الاعتراف بغير منظومته الاستعبادية.
وبين الحالتين، يبقى الإثيوبيون ضحايا لعقل سياسي وخطاب إعلامي عربيين استحلاّ “ازدراء” الألوان الداكنة، واستباحا الهويات الجنوبية، هويات ما دون شمال أفريقيا.
هناك “استبطان” عنصري مضادّ للإثيوبيين، تتجلّى ارتساماته لا فقط في التغطية الإعلامية للمجزرة الإرهابية، وإنّما أيضا في الردّ الإقليمي والدولي الذي تعامل مع المذبحة تعاملا “رقميا كميا” يتطرّق إلى عدد الشهداء دون وقوف على تداعياتها أو توقف عند الردّ المستحقّ.
وهي مسلكية نجحت إسرائيل كما تنظيم الدولة الإسلامية الإرهابي، في الزجّ بالفاعلين الإقليميين والدوليين على اجتباء المقاربة الكميّة لمذابحها دون اتخاذ للقرارات الحاسمة، وهكذا أيضا يصبح الإثيوبيون في درنة، كما الفلسطينيون في الجغرافيا الفلسطينية التاريخية، مجرّد أرقام في عدّاد موت مجنون لا يتوقّف أبدا.
يلعب داعش الإرهابي، كما الكيان الصهيوني، على التناقضات الهوياتية في الوطن العربي، ولا يتأخر في استثمار رواسب ثقافية لم تراجع ولم تندمل بعد، وكما ركزت إسرائيل على الأكراد والدروز في لبنان، وظّف داعش قضيّة الأقباط المصريين خلال مجزرته الأخيرة، لخلق تضامن معه لدى الجماعات السلفية والإخوانية، والفرق الوحيد بينهما أنّ داعش وظّف القضية الأقلياتية لاستهداف الخصوصيات الهوياتية واستنزاف النسيج الاجتماعي، في حين أنّ إسرائيل جيّرت التناقضات الإثنية لقضم الجغرافيا وخلق جيوش من العصابات المسلحة تكون نماذج عن جيش لحد في لبنان وسوريا والعراق وغيرها.
إثيوبيا بين مطرقة التكفيريين وسندان الصهاينة. بين سكين الدواعش والسكاكين القانونية والإدارية والسياسية والثقافية للكيان الصهيوني، وكما أنّ الحل لا يكون إلا عبر تأصيل مشروع نهضوي يخرج الحبشة من الدونية الفكرية والسياسية فعلى العرب، أو ما تبقى منهم، أن يدركوا أن ازدراء أبناء الحبشة من تل أبيب وداعش حصلت وتحصل على أرضهم، سواء منها المحتلة أو النصف محتلة، وفي ضيافتهم أيضا، وأن يتذكروا أنّه حين ضاقت الأرض بما رحبت على المسلمين العرب وجدوا في الحبشة وملكها الملجأ والمنجد، وتلك منّة إثيوبية وأمانة على عاتق المسلمين العرب، لا يكون ردّها بسكاكين الدواعش أو بسكوت أهل الإسلام.
كاتب ومحلل سياسي تونسي