عن عراق ما قبل الدولة وما بعد الدولة
العراق و الاستقلال الواهم
أوّل الانقسام والتقسيم “فكرة”، ونهايته تجزئة وتشرذم، وبينهما تدخلات إقليمية، وغباء أنظمة استبدادية، وتدويل للقضايا الوطنية، وإعلام دعائي يضخّ عناوين “الاستقلال” الواهم.
عن عراق ما قبل الدولة وما بعد الدولة |
قد يكون العراق اليوم، الجغرافيا الأكثر تصديقا لمشروع التقسيم العاصف بالوطن العربي، ذلك أنّ إصرار الكونغرس على التصويت لصالح قرار يتعامل مع العراق وفق 3 كنتونات طائفية “سنية، شيعية، كردية”، لهي المرحلة الأهمّ في سياق “مأسسة الانقسام”، بعد أن مرّ العراق إبّان الاحتلال بعد 2003 وزمن الحصار من 1991 إلى 2003، بمرحلة “مأسسة الطائفيّة” وتحويل البعد الإثني من محدّد هوياتي ثقافي ضمن الدولة، إلى محدّد طائفيّ سياسويّ ضمن دولة العرقيات والأقليات في عـراق ما بعد “بغداد”.
على مدى أكثر من 10 سنوات، عملت إيران والولايات المتحدة الأميركية على التعامل “طائفيا” في المشهد العراقي، ساعيتين بذلك إلى قطع الطريق أمام نجاح أي مبادرة لإعادة الإعمار الاقتصادي والاجتماعي والعسكري والتنموي للعراق، ذلك أنّ الطائفيّة السياسية لا تعمل فقط على تفكيك المجتمعات من الداخل بل هي، وهو الأمر الأخطر، تقوّض كافة سبل الاستقرار والنهضة عبـر إدخال البلاد في عصر “مـا قبل الدولة” و“ما بعد الدولة” في الوقت نفسه.
وليس أخطر على أي دولة أيا كانت مقوماتها ومقدراتها أن تلج عصر “ما قبل الدولة” طائفيا وقبليا وعشائريا، وأن يزج بها في عصر “ما بعد الدولة” من حيث تفتت السلطة وتشرذم المؤسسات، وتحوّل المجال العام الإعلامي، إلى مجال لإعلام الطوائف المتناحرة ولإعلام الهويات القاتلة.
وفي دول عربية هي أصغر من التقسيم، جغرافيا على الأقل، وأعجز عن كافة مشاريع الوحدة والتضامن، وأضعف من فرض الأمن على حدودها ومن تعميم مفهوم “المواطنة” على كافة أبناء الوطن الواحد، تتحوّل الهوية الأقلياتية إلى عنوان احتجاج ورسم معارضة ومقارعة للنظام الأحادي الفاسد والمستبد في آن.
وتصبح “الهويّة” الأصيلة هوية قومية بديلة، تعرّف نفسها وفق نسق “المغايرة” عن الهويات الأخرى، وتؤصل لذاتها خارج جغرافيا الوطن، وخارج تاريخ البلاد، وتعطي لنفسها عمقا إستراتيجيا مغايرا للأمن القومي للبلد، الذي نشأت فيه هذه الهوية.
وبين “أقليات قومية”، تدعي بأنها قومية مستقلة، وبين هوية وطنية جامعة على مستوى الدستور والقوانين ومختلة في مستوى الثقافة الشعبية والتطبيقات الرسمية، يتجذّر مفهوم “الانفصال” و“الانقسـام”، لا فقـط في مستوى الانعتاق عن السلطة المركزية، وإنّما وهذا هو الأخطر في سياق “هويات الأقليات الباحثة عن الثأر” من الدولة الأصلية.
وليس أدل على هـذا الطرح من مثـال “جنوب السودان”، حيث باتت الهوية الجنوبية في تقابل إستراتيجي مع الهوية الشمالية، ونفس الأمر تقريبا في السياق اليمني، حيث لا تزال الوحدة المفروضة بقوة النار والسلاح منكسرة بين جغرافيا ملتهبة في الشمال والجنوب.
“أقليات قومية” مقابل “هويات وطنية”، وأقليات قلقـة مقـابل دولـة قطـرية، برفع القاف، تترنح بين دولة الفشل وفشل الدولة، هو الخيـط الناظـم المـوحّـد للجغـرافيا العـربية من العراق إلى سوريا، ومن اليمن إلى ليبيا، ومـن السودان إلى باقي أقطار المغـرب العربي الكبير، تقف عواصمنا على صفيح ساخن، فلا هي قادرة على بلورة مشروع وطني جامع، ولا هي قـابلة بتجرع كـأس السـمّ بالولـوج في “دولـة الملل والنحل” سلطة ما قبل الدولة وما بعد الدولة.
على العراقيين أن يحافظوا على الحدّ الأدنى المفترض من الوحدة الفدرالية، والبناء على غير الفدرالية من مشترك سياسي وتاريخي وجغرافي واقتصادي، والرهان على أنّ دولة الأقليات لا تصنع دولة ولا تعطي للأقليات حقوقها، فالأقليات مسار تكـاثري تناسلي لا ينتهي، يبدأ من “نحن” في مواجهة “هم”، ويمر عبر “نحن” في مواجهة “نحن”، ولا ينتهي عند المحن ولا الفتن.
كاتب ومحلل سياسي تونسي