في التضامن النقدي مع فرنسا

دماء ضحايا الارهاب

كلّ دماء ضحايا الإرهاب هي دماء بريئة ونقية وزكية وتستوجب التضامن والدعم دون أي تفرقة بين دم مسال في فرنسا وآخر مراق في عواصم العالم العربيّ. وكلّ إرهاب هو إرهاب مدان ومستنكر وتستوجب محاربته ومقارعته والقضاء عليه سواء أكان هذا الإرهاب إرهاب “دولة هلاميّة” اسمها الدولة الإسلامية في العراق والشام، أو إرهاب دولة استيطانية عنصريّة اسمها “إسرائيل”.

في التضامن النقدي مع فرنسا
في التضامن النقدي مع فرنسا
هنا يكون الاستحقاق الأخلاقي والرمزي في تجاوز مستوى “الحدث” الاستثنائي لدولة وشعب لم يصلهما الإرهاب إلا حديثا ومستوى “الخبر الرتيب” لشعب فلسطيني وشعوب عربيّة يطالهما الإرهاب الاستيطاني والاحتلالي منذ أكثر من قرن على الأقلّ. ذلك أنّه لا “الحدث” في تداعياته واستتباعاته ولا الخبر في نمطيّته بإمكانهما أن يحدثا اختراقا أخلاقيا وميثاقيا في العقل والوجدان بشكل يجعلهما يقبلان بإرهاب كيان استيطاني ويرفضان إرهاب التنظيمات الإجراميّة.
ولئن كان من حقّ كلّ إنسان عربي أن يتضامن إنسانيا وأخلاقيا وقانونيا وحقوقيا مع ضحايا إرهاب “داعش” في باريس، فإنّه من باب الواجب الثقافي والرمزي والسياسي والوحدوي والإستراتيجيّ أن يتضامن العربي مع ضحايا الإرهاب الداعشي في لبنان وسوريا والعراق واليمن ومصر وليبيا.
ولئن كان أيضا من المبدئي الميثاقي التضامن مع ضحايا باريس، فإنّ هذه المقدمة لا تلغي الحقّ في توجيه النقد البناء والموضوعي للمقاربة الفرنسية في مواضيع الهجرة والاندماج والإسلاموفوبيا التي باتت تشكل الخيط الناظم لخطاب اليمين واليمين المتطرف الفرنسي دون أن نقع في مطبات الحجج التبريرية والذرائعيّة للعنف والتطرّف.
فرنسا تحتاج اليوم إلى أكثر من تضامن مطلق، يصل الحد ببعض الأنتلجنسيا العربية إلى جلد الذات والدخول في مازوشيّة حضاريّة تسقط كلّ لبنات الهويّة وتلغي صاحبها ثقافة أو مثاقفة، حيث أنها في حاجة ماسة إلى تحصين أكبر للجبهة الداخلية وتوسيع لدائرة الاندماج الثقافي والسياسي والمدني عبر المزيد من التفعيل لمقاربة التعددية الثقافية طالما أنّ أحداث باريس هي أحداث فرنسية بامتياز ابتداء بالمنفذين مرورا بساحة التنفيذ وانتهاء بالضحايا.
صحيح أنّ سياسة الحديد والنار مطلوبة في ميادين القتال ضدّ داعش في سوريا والعراق وليبيا، ولا يمكن بأي حال من الأحوال أن يقبل “التطبيع” الواقعي مع الحالة الداعشية في أي قطر من العالم، إلا أنّ مسلكيّة الحديد لا تكون نافذة وفاعلة إلا بمسلكيّة الحرير، والمتمثلة، أساسا، في النأي بفرنسا عن سياسات الهويّة المنغلقة المستهدفة للأقليات وللفرنسيين من أصول أجنبية، ذلك أنّه كلّما انحسرت مفاهيم المواطنة ازداد الغبن والضيم، وكلّما اتسع مفهوم المواطنة، فكرة وسياسة وتطبيقا وخطابا، كلما اصطدمت أيديولوجيات الموت بأطروحات الحياة.
أليس من المفارقة أن تتقاطع أطروحات الأنتلجنسيا العربية مع خطاب اليمين الفرنسيّ المتطرّف، فكلاهما يرفضان منظومة الآخر وكلاهما يستبطنان عنصريّة ثقافيّة قوامها التعالي الحضاري والتمايز البشريّ والتفاضل الأنثروبولوجي، وكلاهما يمثلان استردادا لخطاب الاستعمار القديم، الفرق الوحيد أنّ الأوّل كان يبشّر بالتفوّق للاحتلال، والثاني يسوّق للتمايز قصد التمييز.
لن تتردّد قوى اليمين المتطرف الفرنسي، وهي وازنة في المشهد السياسي المحلي، في إطلاق دعواتها المتطرفة وتسليط ضغوطها على الحكومة قصد اعتماد سياسات أكثر ترشيحا وتنطّعا في مسائل الهجرة واللجوء والمزيد من الضبط للفضاء العمومي الفرنسي من روافد التعدد والتعددية الثقافية واللغويّة، ويبدو أنّ الحكومة الاشتراكية تتجه نحو سياسات اليمين الساركوزي، نسبة إلى نيكولا ساركوزي، واللوباني، نسبة إلى مارين لوبان، دون قراءة جيّدة للواقع أو لاستتباعاته.
في ذهن كلّ عربيّ فرنسان اثنتان، الأولى استعماريّة احتلالية ذهبت بخيرات العالم العربي طيلة القرن العشرين، والثانية ثقافية حضارية جوهرها الحرية والثقافة ومعدنها العدالة الاجتماعية. ومن باب التضامن النقدي أن نحافظ على الثانية من ردّة اليمين المتطرّف الاستعماري في أطروحاته ومقارباته حيال الآخر، قبل أن يوظّف أتباع لوبان وساركوزي مجزرة باريس مدفوعين بأنتلجنسيا عربية مخترقة ومختلقة لقصف مبادئ الثورة الفرنسية، وعندها تخسر عاصمة الأنوار الراهن والرهان.
كاتب ومحلل سياسي تونسي
المنشور اللاحق المنشور السابق
لا توجد تعليقات
أضف تعليقك
comment url