تونس: العجز عن إدارة الأزمة
العجز عن إدارة الأزمة |
تونس مقبلة على أكثر من ملف حساس للتباين السياسي، بداية بمشروع المساواة في الميراث وانتهاء بالتحضير للانتخابات، وكل سلاسة في تسوية هذه الملفات تنطلق من الملف الاقتصادي والاجتماعي.
البحث عن عقد اجتماعي تونسي جديد
الأخطر من الأزمة الحالية المتصاعدة في تونس بين الاتحاد العام التونسي للشغل وبين التحالف الحكومي الحالي، كامن في العجز العام عن إدارتها والإحاطة بها، دون الحديث عن تملك أدوات حلها وتفكيكها.
ليست المرة الأولى ولن تكون الأخيرة التي يعلن فيها الاتحاد العام التونسي للشغل إضرابا عاما يؤكد من خلاله وعبره أنه القوة الرمزية والاعتبارية الأقدر على التحريك والتجييش والتحشيد، ولكنها قد تكون المرة الأولى التي تتوجه فيها الأسئلة العميقة والمحرجة عمّا بعد الإضراب، وتُطرح فيها استفسارات هيكلية وبنيوية عن مصير العلاقة بين الفاعل السياسي والفاعل الاجتماعي في ظل هوة لا تزال تتسع، باطراد، بين الطرفين.
لم يكن اتحاد الشغل في المخيال والحقيقة أداة تفاوض حول الزيادة في الأجور فحسب، بل كان ولا يزال الرافعة الرمزية لآمال طبقة متوسطة وتطلعات أبناء الشعب في الحياة الكريمة، وهو مع ذلك بات خلال مرحلة ما بعد الثورة قوّة توافق وتحكيم وتعديل لميزان القوى السياسية بين الفرقاء، ولولا الدور الوطني الذي لعبه ضمن الرباعي الراعي للحوار في العام 2013 لذهبت البلاد، يومذاك، إلى ما لا تُحمد عقباه.
وكلما تعلق الصراع بأحد أركان صناعة وإرساء التوافق الوطني في البلاد مثل المنظمة الشغيلة، ازداد المشهد السياسي والاجتماعي قتامة، فمن يؤمّن التعديل والوساطة إن كان الاتحاد في قلب المكاسرة مع الفاعل التنفيذي، ومن يفرض الحلول الوسطى إن كانت المنظمة الشغيلة طرفا في المعركة القائمة؟
ليس في الأمر مزايدة عن دور الاتحاد في الدفاع عن منظوريه وعن الطبقة المتوسطة، وليس فيه أيضا استدرار لدور فرضته أوضاع 2013 في تونس، ولكن سؤال إدارة الأزمة الاجتماعية والاقتصادية المستفحلة يفرض نفسه في ظل استقطاب سياسي واجتماعي واقتصادي، قد يتحول قريبا إلى استقطاب هوياتي ثقافي على وقع تقديم رئاسة الجمهورية مشروع المساواة في الإرث إلى مجلس النواب.
اللافت أن قوى التوازن والوساطة والحكمة والتحكيم باتت اليوم جزءا من مشهد الاصطفاف والانقسام، بشكل مباشر أو غير مباشر، وعندما تفرض الأزمات الاقتصادية والاجتماعية المتلاحقة والمتراكمة انهيارا وتلاشيا للقوى الرمزية الاعتبارية في البلاد تصير الأزمة استعصاء والإشكال معضلة.
وأزمة راهنة على غرار الأزمة المعيشة اليوم، تفرض مسألتين اثنتين، إما البحث عن سبل حقيقية وجوهرية لحلها وهو أمر مستعص لعدة اعتبارات محلية ودولية، وإما الانكباب المشترك على سبل واقعية لإدارة الأزمة بشكل يوقف تداعياتها عند المطلبية الاجتماعية والاقتصادية.
هنا من المفترض أن يكون البحث عن عقد اجتماعي تونسي جديد قد يكون رافعته مجلس الحوار الاقتصادي والاجتماعي، وتكون واجباته الأساسية التهدئة والهدنة والدعوة إلى الاستثمار واستحثاث التنمية بشتى السبل.
لا أوراق في جعبة رئيس الحكومة يوسف الشاهد، ولا بيادق في رقعة شطرنج الأمين العام للاتحاد نورالدين الطبوبي، لا ترف لدى الرجلين اللذين يقفان متقابلين، يحدّق الواحد في الآخر وينظر كل واحد إلى مسدس الآخر، والمفارقة أن الطرفين يدركان تمام الإدراك أنّ المسدسين غير مشحونين أصلا بالرصاص.
أفرغ نورالدين الطبوبي جعبته من خطاب التهدئة والمصابرة، وباتت القواعد تهدر بصوت واحد “الشعب يريد الخبز والماء”، والتفهم الذي كان يبديه الرجل لوضعية رئاسة الحكومة ولوضعها حيال الدافعين والمانحين الدوليين، اصطدم بنفاد صبر مئات الآلاف من العاطلين عن العمل والذين يعيشون تحت خطّ الحياة.
في المقابل، وصلت رئاسة الحكومة منذ سنين عديدة إلى المدى الأقصى من التنازلات تخفيفا للاحتقان، واستنفدت بذلك الخيارات البديلة فيما يضع صندوق النقد الدولي “لاءاته” ويرفع الفيتو ضدّ أي خطوة نحو الانتداب في الوظيفة العمومية أو الترفيع من كتلة الأجور.
بشكل من الأشكال، صارت المشكلة في واجهتها وظاهرها صراعا بين حكومة الشاهد والمنظمة الشغيلة، أما في وجهتها وفي عمقها فهي ما بين صندوق النقد الدولي وسياساته الإقراضية وابتزازه للعواصم والحكومات، وما بين الطبقة الفقيرة والمفقرة -بعد انحدار الطبقة المتوسطة- التي باتت على هامش الواقع.
ولأنّ الأزمة في تفاصيلها متعلقة بالسياسات الإقراضية لصندوق النقد الدولي والذي لم يقدم إلى يوم الناس هذا نموذجا اقتصاديا ناجحا لدولة تمكنت من استنهاض اقتصادها واستحثاث نموها من خلال الاستعانة به، فإن الحل يبدأ من الوعي بأن استرداد الأمن الاقتصادي والاجتماعي يمر حتما عبر بداية التفكير في مرحلة ما بعد النقد الدولي وهي مرحلة لها حيثياتها وملابساتها.
تونس مقبلة على أكثر من ملف حساس للتباين السياسي والمجتمعي الحاد، بداية بمشروع المساواة في الميراث وليس انتهاء بالتحضير للانتخابات البرلمانية والرئاسية، وكلّ سلاسة في تسوية هذه الملفات تنطلق من الملف الاقتصادي والاجتماعي باعتباره أمّ الملفات، وكل استعصاء هنا سيؤدي إلى معضلات ومنغصات أخرى، من الواضح أن تونس لا تستحقها ولا تحتاج إليها.
أمين بن مسعود
كاتب ومحلل سياسي تونسي