تفكير النكبة ونكبة التفكير
ما بين التفكير في النكبة والتفكير بالنكبة، خيط معرفي دقيق، يفضي بصاحبه إما إلى الاعتبار من التاريخ وقراءة شواهد الماضي قصد الاستنهاض، وإما المكوث في براثن التبعية والانهزام الحضاري والسياسي والعسكري.
يستحضر العقل العربي سنويا مشاهد النكبة الفلسطينية والعربية عامة، مجترا معها صور الترحيل والتهجير واللجوء، ولأن ما بين النكبة والنكسة حرف واحد، وما بين ذكرى النكبة وذكرى النكسة شهر واحد إلا قليلا، تنتصب المنظومة الإعلامية العوجاء والماكينة الدعائية العمياء في تكرار مقيت لذات المضامين الإعلامية، دون انتباه إلى أنّها تعمل على تثبيت صورة الضحية في العقل العربي، وتركيز ثقافة الانهزام في المخيال، وتكريس نظرية المؤامرة في الفكر، وتصديق مقولة الخروج العربي من التاريخ عبر ترحيلهم من الجغرافيا الفلسطينية.
ذلك أنّ كلّ وقوف عند مشهدية الضحية دون اتباعها بصورة الثورة الفلسطينية في ستينات القرن المنصرم، وكل توقف عند مشاهد النكسة في 1967 دون إلحاقها بأحداث حرب الاستنزاف في 1969 و1970 وحرب رمضان 1973، هو في الحقيقة اجترار للرواية الإسرائيلية الساعية لتأمين التفوق الصهيوني في العقل والوجدان قبل الميدان، وإقرار عربي بصدقية المقاربة الإسرائيلية بأحقيّة الصهاينة في الأرض الفلسطينية تأسيسا على مقولة “البقاء للأقوى”.
اللافت هنا أنّ “الضحية”، كصورة وتمثّل ومقاربة ومسلكية فكرية، تفرض طوقها المحكم حتّى على منظومة التأريخ وسرد وقائع حروب العرب ضد إسرائيل، وتصير الانهزامية هي المحددة للشواهد التاريخية في الصدد، ليقع التركيز على حجم الخسائر التي منيت بها الدول العربية جمعاء في النكسة، وهي حقيقة، دون أن يذكر معها أنّ ذات الجيوش خاضت حرب التحرير في 1973، وأنّ دولة الإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية انخرطتا في تأييد استثنائي للمجهود الحربي العربي، وقطعتا النفط عن الدول الغربية المشاركة أو المساندة في العدوان على مصر وسوريا وفلسطين، رافعتيْن شعار أن النفط العربي ليس أغلى من الدم العربي، وهي حقيقة واقعيّة مقابلة للأولى.
لسنا في وارد المغالطة التاريخية عبر اقتطاف شواهد تاريخية دون أخرى، بيد أنّ التركيز على الانهزام في سياق دون التفات لواقع الانتصار في سياق آخر، يفضي إلى فرضيتين تفسيريتين، فإما أن الجلاد هو صانع الرسالة الإعلامية وحارس البوابة الاتصالية في آن، أو أنّ الضحيّة عاجزة عن التفكير خارج أفق نظرية المؤامرة وقاصرة عن التموقع خارج “المظلومية” التاريخية.
ذلك أنّ التآمر فعل في التاريخ وعمل في الجغرافيا، في حين أنّ المؤامرة هي نظرية لتفسير كلّ التاريخ ولتحليل تغيرات الجغرافيا، فإن سلمنا بأنّ التاريخ المعاصر والحاضر المعيش شهدا تآمرا غربيا على الثروات العربية، فذلك لا يعني، البتة، بناء نظرية تفسيرية تقوم على “التآمر” تنسحب على كافة الأحداث وعلى كلّ العلاقات الدولية.
اجترار “النكبة” دون إلحاقها بالثورة المصرية في 1952 والثورة الفلسطينية في 1965، واستحضار “النكسة” دون إفرادها بحروب الاستنزاف أو حرب رمضان 1973، يصنع رواية لتاريخ الصراع العربي الصهيوني جوهره الانهزام دون انتفاضة، ومحوره الاحتلال دون تحرير، وهنا بالضبط تكمن “نكبة التفكير” حيث تصبح إسرائيل هي “الفاعل” وكل العرب “مفعولين بهم” في سياق فعلي استعماري احتلالي. وهكذا يُبنى العقل الانهزامي وتؤصل الشخصية العربية، التابعة والخاضعة والخانعة لشروط الغرب وغيره من القوى الإقليمية. وهو بالضبط كينونة الرواية الإسرائيلية بأنّ “أعرابا يتكلمون بلا لغة، ويتفاهمون دون تواصل، أعرابا بلا هوية ولا تاريخ مشترك ولا مشروع واحد وبلا شرعية فكرية ولا ملكية للأرض، استوطنوا دون حقّ حضاريّ أرض الميعاد، وهو ما يفسّر خروجهم من أرض فلسطين دون أي مقاومة” وفق المزاعم الصهيونية.
إن كان من بد لاستحضار النكبة والنكسة، فليكن استحضار المراجعة النقدية لتاريخ الصراع العربي الإسرائيلي، وليكن استحضار من رفع لاءاته الثلاث في الخرطوم، لا سلم ولا تفاوض لا اعتراف بإسرائيل، وليكن استحضار من قال “ارفع رأسك فإنّك عربي”.
كاتب ومحلل سياسي تونسي