عن انتفاضة "كوشي" والهامش "الوظيفي" في إسرائيل
انتفاضة يهود الفلاشا
في كيان استيطاني وظيفي مثل إسرائيل تتحوّل الوظيفيّة إلى محدّد معياري ومقياس تفاضليّ بين مختلف المكونات الهويّاتية المحتلّة لفلسطين التاريخيّة.
عن انتفاضة كوشي والهامش الوظيفي في إسرائيل |
بمعنى أنّ التفكير الأداتي والتدبير الوظيفي هما الدافعان الأساسيان لاستجلاب اليهود من شتى أصقاع الأرض لاحتلال فلسطين المحتلة وليس الإيفاء بالوعد الإلهي لليهود في الأرض الموعودة كما تدّعي الحركة الصهيونية.
اليوم، ينتفض يهود الفلاشا –أو كوشي بمعنى العبد الأسود كما يلقبون إسرائيليا- على الوظيفة الاجتماعية والاقتصادية المنوطة بعهدتهم في إسرائيل منذ ثلاثة عقود عن تقاطرهم من أرض الحبشة، ذلك أنّ يهود الفلاشا يسعون حاليا –لا فقط كما تشير معظم الأدبيات العربية في الصدد إلى رفع العنصرية الدستورية والإثنية التي يعانون منها– وإنما أيضا وهذا هو الأهمّ إلى تغيير مفهوم وطبيعة الوظيفة الموكلة إليهم في إسرائيل.
ذلك أنّ المؤسسة الرسمية الإسرائيلية تسقط على يهود الفلاشا مفهوم “الهامش” عن المركز وبراديغم “الفائض الزائد” عن الأصل وهو متجسد في “الوظائف” التاريخية الثلاث المنوطة بـ“الفلاشا”، وهي الخدمة المدنية المتدنية (العمل البلدي خاصة)، خطوط الدفاع والهجوم الأولى في الجيش الإسرائيلي، والمهمة الديمغرافية اليهودية.
طيلة وجودهم في إسرائيل لم يخرج “يهود الحبشة” عن الوظيفية البلدية والقتالية والديمغرافية، وكافة جهودهم على تأمين وظيفية “سياسية” أو عسكرية راقية أو برلمانية باءت بالفشل من طرف اليسار الإسرائيلي قبل اليمين الديني والقومي.
وهو ما يثبت أنّ المشهدية السياسية الإسرائيلية لا تقسّم وفق منظومة اليمين واليسار أو المحافظين والليبيراليين أو القوميين والأمميين، ولكن تحدّد وفق منظور “الإثنيات” المهاجرة الأولى من الإشكيناز والسفارديم، وهي الإثنيات المؤسسة لإسرائيل والمؤثثة للمؤتمرات الصهيونية الأولى، والإثنيات المهاجرة في مراحل ما بعد التأسيس من يهود المغرب والمشرق العربيين ويهود الفلاشا…
وفق ثنائية المهاجر السابق والمهاجر اللاحق، بنيت المنظومة الدستورية والعسكرية والإدارية في إسرائيل وتأصلت الهوية الطائفيّة للكيان وتوزعت المؤسسات بين “الإشكناز” و“السفارديم” أو بصفة أدق بين ممثلي “التيار الصهيوني العام” و“التيار التنقيحي التصحيحي” في مؤتمرات ما قبل تأسيس الكيان.
المفارقة في هذا المستوى التفسيري أنّ نضال “يهود الفلاشا” يبدو بلا سقف وبلا أسس قانونية أو دستورية أو تاريخية، فليست إسرائيل بدولة المواطنة حتّى تعترف بالمساواة القانونية بين “حاملي جنسيتها”، وليست أيضا بدولة الهوية المنفتحة حتّى تقرّ بوجود أقليات إثنية “ملونة” صلب جغرافيتها، ولا بدولة القانون حتّى يتفوّق مبدأ العدل والإنصاف على مبادئ مأسسة العنصريّة الدينية والإثنية، بل إنّ المسار السياسي الذي تعيشه تل أبيب يصبّ في خانة الهوية المنغلقة وفوز التكتل اليميني في الانتخابات البرلمانية الأخيرة خير دليل على هذا الأمر، ما يعني أنّ “انتفاضة” كوشي سوف تتنزّل في العقل الصهيوني، في ذات سياق نضال عرب الخطّ الأخضر من حيث تقويض وتفكيك بنية الكيان الإسرائيلي الاستيطاني.
كثيرة هي التناقضات الإثنية العاصفة بإسرائيل، وكلّها تهزّ العقل التطبيعي العربي هزّا من حيث استحضار حقيقة أنّ إسرائيل ليست سوى تجمّع استيطاني متناقض ومتناثر تمكّن من إخفاء تبايناته ردحا من الزمان دون أن ينجح في ردمها أو جسر هوّتها أو التقليل من استتباعاتها على المدى المتوسط والبعيد.
عبثا يحاول قادة اليمين الصهيوني الهرولة إلى الأمام عبر تشريع قانون “يهودية الدولة الإسرائيلية” قصد الإيهام بوجود إجماع محلي حول “يهودية إسرائيل” وطابعها القومي الديني، ذلك أنّ التناقضات صلب “المربع” اليهودي الصهيوني كبيرة جدا والتباينات صلب المربع اليهودي غير الصهيوني أكبر وأكثر وطأة، وانتفاضة “كوشي” ليست رفضا لليهودية بقدر ماهي رفضا للعنصرية الصهيونية باسم اليهودية ومعارضة لطابع وظيفي إقصائي داخلي صلب كيان وظيفي خارجي.